كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم تلتها فقرة أخرى عن ضمان الله سبحانه لمن يهاجر في سبيله، منذ اللحظة التي يخرج فيها من بيته، قاصدًا الهجرة إلى الله خالصة. عالج فيها كل المخاوف التي تهجس في النفس البشرية وهي تقدم على هذه المخاطرة، المحفوفة بالخطر، الكثيرة التكاليف في الوقت ذاته.
فالحديث مطرد عن الجهاد والهجرة إلى دار المجاهدين، وأحكام التعامل بين المسلمين في دار الهجرة وبقية الطوائف خارج هذه الدار- بما في ذلك المسلمون الذين لم يهاجروا- والحديث موصول.
كذلك يلم هذا الدرس بكيفية الصلاة عند الخوف- في ميدان القتال أو في أثناء طريق الهجرة- وتدل هذه العناية بالصلاة في هذه الآونة الحرجة، على طبيعة نظرة الإسلام إلى الصلاة- كما أسلفنا- كما يهيئ لإيجاد حالة تعبئة نفسية كاملة؛ في مواجهة الخطر الحقيقي المحدق بالجماعة المسلمة؛ من أعدائها الذين يتربصون بها لحظة غفلة أو غرة!
وينتهي الدرس بلمسة قوية عميقة التأثير؛ في التشجيع على الجهاد في سبيل الله؛ في وجه الآلام والمتاعب التي تصيب المجاهدين. وذلك في تصوير ناصع لحال المؤمنين المجاهدين، وحال أعدائهم المحاربين؛ على مفرق الطريق:
{ولا تهنوا في ابتغاء القوم.. إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون. وترجون من الله ما لا يرجون...}
وبهذا التصوير يفترق طريقان؛ ويبرز منهجان؛ ويصغر كل ألم، وتهون كل مشقة. ولا يبقى مجال للشعور بالضنى وبالكلال.
فالآخرون كذلك يألمون. ولكنهم يرجون من الله ما لا يرجون!
ويرسم هذا الدرس- بجملة الموضوعات التي يعالجها، وبطرائق العلاج التي يسلكها- ما كان يعتمل في جسم الجماعة المسلمة، وهي تواجه مشاق التكوين الواقعية؛ ومشكلات التكوين العملية. وما كان يشتجر في النفوس من عوامل الضعف البشري؛ ومن رواسب الماضي الجاهلي، ومن طبيعة الفطرة البشرية وهي تواجه التكاليف بمشاقها وآلامها؛ مع ما يصاحب هذه المشاق والآلام من أشواق ومن تطلع إلى الوفاء كذلك؛ يستثيرها المنهج الحكيم، ويستجيشها في الفطرة لتنهض بهذا الأمر العظيم.
ونرى ذلك كله مرتسمًا من خلال الوصف للواقع؛ ومن خلال التشجيع والاستجاشة؛ ومن خلال المعالجة للمخاوف الفطرية والآلام الواقعية؛ ومن خلال التسليح في المعركة بالصلاة! وبالصلاة خاصة- إلى جانب التسلح بالعدة واليقظة- وبالثقة في ضمانة الله للمهاجرين، وثوابه للمجاهدين، وعونه للخارجين في سبيله، وما أعده للكافرين من عذاب مهين.
ونرى طريقة المنهج القرآني الرباني في التعامل مع النفس البشرية في قوتها وضعفها؛ وفي التعامل مع الجماعة الإنسانية في أثناء تكوينها وإنضاجها. ونرى شتى الخيوط التي يشدها منها في الوقت الواحد وفي الآية الواحدة.. ونرى- على الأخص- كيف يملأ مشاعر الجماعة المسلمة بالتفوق على عدوها، في الوقت الذي يملأ نفوسها بالحذر واليقظة والتهيؤ الدائم للخطر، وفي الوقت الذي يدلها كذلك على مواطن الضعف فيها، ومواضع التقصير، ويحذرها إياها أشد التحذير.
إنه منهج عجيب في تكامله وفي تقابله مع النفس البشرية؛ وفي عدد الأوتار التي يلمسها في اللمسة الواحدة، وعدد الخيوط التي يشدها في هذه النفس، فتصوت كلها وتستجيب!
لقد كان التفوق في منهج التربية، والتفوق في التنظيم الاجتماعي الذي قام عليه؛ هو الأمر البارز الظاهر فيما بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله من فروق.. ولقد كان هذا التفوق البارز هو كذلك أوضح الأسباب- التي يراها البشر- لتمكن هذا المجتمع الناشئ الشاب- بكل ما كان في حياته من ملابسات ومن ضعف أحيانًا وتقصير- من طي تلك المجتمعات الأخرى، والغلبة عليها. لا غلبة معركة بالسلاح فحسب؛ ولكن غلبة حضارة فتية على حضارات شاخت. غلبة منهج على مناهج، ونموذج من الحياة على نماذج؛ ومولد عصر جديد على مولد إنسان جديد.
ونكتفي بهذا القدر حتى نواجه النصوص بالتفصيل:
{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى. وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا. درجات منه ومغفرة ورحمة. وكان الله غفورًا رحيمًا}.
إن هذا النص القرآني كان يواجه حالة خاصة في المجتمع المسلم وما حوله؛ وكان يعالج حالة خاصة في هذا المجتمع من التراخي- من بعض عناصره- في النهوض بتكاليف الجهاد بالأموال والأنفس.
سواء كان المقصود أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة احتفاظًا بأموالهم، إذ لم يكن المشركون يسمحون لمهاجر أن يحمل معه شيئًا من ماله؛ أو توفيرًا لعناء الهجرة وما فيها من مخاطر، إذ لم يكن المشركون يتركون المسلمين يهاجرون، وكثيرًا ما كانوا يحبسونهم ويؤذونهم- أو يزيدون في إيذائهم بتعبير أدق- إذا عرفوا منهم نية الهجرة.. سواء كان المقصود هم أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة- وهو ما نرجحه- أو كان المقصود بعض المسلمين في دار الإسلام، الذين لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس- من غير المنافقين المبطئين الذين ورد ذكرهم في درس سابق- أو كان المقصود هؤلاء وهؤلاء ممن لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس في دار الحرب ودار الإسلام سواء.
إن هذا النص كان يواجه هذه الحالة الخاصة؛ ولكن التعبير القرآني يقرر قاعدة عامة؛ يطلقها من قيود الزمان، وملابسات البيئة؛ ويجعلها هي القاعدة التي ينظر الله بها إلى المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان- قاعدة عدم الاستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالأموال والأنفس- غير أولي الضرر الذين يقعدهم العجز عن الجهاد بالنفس، او يقعدهم الفقر والعجز عن الجهاد بالنفس والمال- عدم الاستواء بين هؤلاء القاعدين والآخرين الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم.. قاعدة عامة على الإطلاق:
{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم}.
ولا يتركها هكذا مبهمة، بل يوضحها ويقررها، ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين:
{فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة}.
وهذه الدرجة يمثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامهم في الجنة.
في الصحيحين «عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله. وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض».
وقال الأعمش عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، «عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» من رمى بسهم فله أجره درجة «فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة؟ فقال: أما إنها ليست بعتبة أمك. ما بين الدرجتين مائة عام».
وهذه المسافات التي يمثل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها؛ بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون. حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية! وقد كان الذين يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدقونه بما يقول. ولكنا- كما قلت- ربما كنا أقدر- فوق الإيمان- على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب!
ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين- غير أولي الضرر- والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم، فيقرر أن الله وعد جميعهم الحسنى: {وكلًا وعد الله الحسنى}.
فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان؛ فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس.. وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين. إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير؛ والخير مرجو فيها، والأمل قائم في أن تستجيب.
فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى؛ مؤكدًا لها، متوسعًا في عرضها؛ ممعنًا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا. درجات منه ومغفرة ورحمة. وكان الله غفورًا رحيمًا}.
وهذا التوكيد.. وهذه الوعود.. وهذا التمجيد للمجاهدين.. والتفضيل على القاعدين.. والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم.. ومن مغفرة الله ورحمته للذنوب والتقصير.
هذا كله يشي بحقيقتين هامتين:
الحقيقة الأولى: هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها. وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكًا لطبيعة النفس البشرية، ولطبيعة الجماعات البشرية، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائمًا في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس، مع خلوص النفس لله، وفي سبيل الله. وظهور هذه الخصائص البشرية- من الضعف والحرص والشح والتقصير- لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة، ولا إلى نفض اليد، منها وازدرائها؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها.. ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح، باعتبار أن هذا كله جزء من «واقعها»! بل لابد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة. بكل ألوان الهتاف والحداء.. كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم.
والحقيقة الثانية: هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام. لما يعلمه الله سبحانه من طبيعة الطريق؛ وطبيعة البشر؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين.
إن «الجهاد» ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة. إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة! وليست المسألة- كما توهم بعض المخلصين- أن الإسلام نشأ في عصر الإمبراطوريات؛ فاندس في تصورات أهله- اقتباسًا مما حولهم- أنه لابد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن!
هذه المقررات تشهد- على الأقل- بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصيلة لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون.
لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله؛ في مثل هذا الأسلوب! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مثل هذا الأسلوب.
لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق».
ولئن كان صلى الله عليه وسلم رد في حالات فردية بعض المجاهدين، لظروف عائلية لهم خاصة، كالذي جاء في الصحيح أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أجاهد. قال: «لك أبوان؟» قال: نعم. قال: «ففيهما جاهد». لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة؛ وفرد واحد لا ينقص المجاهدين الكثيرين. ولعله صلى الله عليه وسلم على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فردًا فردًا، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه، ما جعله يوجهه هذا التوجيه.
فلا يقولن أحد- بسبب ذلك- إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف. وقد تغيرت هذه الظروف!
وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس! ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين!
إن الله سبحانه يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك! ويعلم أن لابد لأصحاب السلطان أن يقاوموه. لأنه طريق غير طريقهم، ومنهج غير منهجهم. ليس بالأمس فقط. ولكن اليوم وغدًا. وفي كل أرض، وفي كل جيل!